مروان البرغوثي … الأسير الحُر الذي يلخّص حكاية شعبه

الكاتب: مروان إميل طوباسي
ستبقى قائداً شامخاً يا مروان ، فلا غرفة التحقيق باقية، ولا زرد السلاسل .
فمنذ أكثر من عقدين مضت خلف القضبان غيّرت ملامح القائد الأسير مروان البرغوثي، لكن روحه لم تلن، وعينيه لم تنخفض ، ورأسه ظل مرفوعا كأنه يطل من وراء القضبان على مستقبل وطنه .
مشهد الأمس ، حين اقتحم المجرم الفاشي بن غفير زنزانة البرغوثي مهددا ومتوعِّدا، لم يكن حدثا عابرا ، بل اختصارا مكثفا لطبيعة المواجهة بين إرادة شعبنا الأعزل إلا من عزيمته وأصراره ، وبين ذهنية الأستعلاء والعقاب الجماعي التي تحكم عقل الأحتلال الصهيوني الإستعماري . لقد حاول الجبان بن غفير ، بصفته وزيرا للأمن القومي في حكومة هي الأكثر تطرفا في تاريخ دولة الأحتلال ، أن يرسل رسالة إذلال وكسر معنوي ، لكنه لم يدرك أن مثل هذه المواجهات الصغيرة غالبا ما تنقلب إلى مشاهد رمزية تعزز مكانة القادة وتعمّق روح التحدي في صفوف شعبهم .
منذ اعادة اعتقاله في عام ٢٠٠٢ والحكم عليه بالسجن المؤبد خمس مرات ، تحوّل مروان البرغوثي الى جانب رفاقه الاخرين إلى أيقونة وطنية عابرة للفصائل ، فهو القائد الذي يجمع بين خلفيته في النضال الميداني ودوره السياسي داخل مؤسسات منظمة التحرير وحركة "فتح". لم يكن مجرد أسير ، بل كان وما يزال جزءًا من النقاش الوطني حول مستقبل المشروع الفلسطيني ومعنى التحرر وأدواته . لهذا فإن أي مواجهة مع مروان ، حتى داخل زنزانته، تحمل دائما أبعادا سياسية تتجاوز شخصه لتطال مجمل الصراع ورؤية الكفاح الوطني التحرري .
اليوم ، وفي ظل ظروف سياسية معقدة، يصبح مشهد مروان شامخا أمام جلاده انعكاسا أعمق لثبات الموقف الفلسطيني في مواجهة مخططات التصفية . فنحن أمام رؤية أمريكية غربية وحكومة إسرائيلية تتبنى علنا سياسات الإبادة البطيئة في غزة ، وتوسيع الاستيطان في الضفة ، وتهويد القدس وصولا الى تنفيذ المشروع الصهيوني المزعوم "إسرائيل الكبرى" ، ومع ذلك لا تزال تراهن على أن القمع سيكسر إرادة شعبنا . لكن التاريخ الفلسطيني ، ومنه تجربة الحركة الأسيرة ، يثبت أن السجون كانت دائما مدارس للوعي والتنظيم ، ومختبرا للصلابة الوطنية والثبات .
مروان البرغوثي ، في شموخ صمته أمام إجرام ومرض بن غفير ، يُذكرنا بأن القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الجنود ولا بمساحة الأرض المحتلة ولا بترسانة السلاح ، بل بقدرة الإنسان على التمسك بمبادئه حتى في أحلك الظروف . وهذه رسالة تتجاوز السجون لتصل إلى ساحات العمل السياسي الفلسطيني، حيث تشتد الحاجة اليوم إلى إعادة بناء المشروع الوطني على أساس الرؤية الواضحة والوحدة والمقاومة بكل أشكالها الشعبية والسياسية والقانونية والتضامنية ، واستعادة البوصلة نحو الهدف الجوهري في إنهاء الأحتلال اولاً وتحقيق الأستقلال الوطني الديمقراطي .
كما أن مشهد الأمس يجب أن يُقرأ في ضوء التحولات الإقليمية والدولية الجارية . فالعالم ، رغم ازدواجية معايره زنفاقه السياسي وتحديدا الغرب منه ، بدأ يسمع مجددا صوت فلسطين بفضل صمود وتضحيات غزة ومخيمات وقرى ومدن كل فلسطين ، وحركة التضامن العالمية ، وتصاعد الأصوات الحقوقية ومنها اليهودية التقدمية التي توثّق جرائم الاحتلال وبدأ يتجه للإعتراف بالحقوق والدولة . وفي هذا السياق ، يصبح وجود قادة مثل مروان خلف القضبان شهادة حيّة على طبيعة هذا الصراع ، ودليلاً إضافيا على أن إسرائيل تخشى إرادة الحرية أكثر من أي شيء آخر .
بن غفير ، بممارساته الاستفزازية ، لا يعبّر فقط عن شخصيته الصهيونية المتطرفة التي لا تقوم فقط على الفوقية المزعومة والاقصاء والأحلال والتي تنتهك الاخلاق والقانون الدولي واتفاقيات جنيف بحق الأسرى ، بل عن ذهنية النظام الذي يخشى الرموز الوطنية ويعمل على عزلها عن شعبها وترتجف امام أصحاب الأرض الأصلاني . لكن هذه المحاولات غالبا ما تفشل ، إذ يتحول الأسير إلى رمز جامع ووحدوي ، وتتحول الزنزانة إلى منبر مقاومة ، وتصبح كل مواجهة مع السجان مناسبة لتعزيز الذاكرة الوطنية الجمعية للشعب .
من هنا ، فإن الدفاع عن مروان البرغوثي ، وعن كل الأسرى ابطال الحرية ، ليس مجرد تضامن إنساني أو حقوقي ، بل هو جزء من معركة التحرر ذاتها . فالأسرى يجسدون في أجسادهم وأعمارهم ومعاناتهم الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في مواجهة مشروع استعماري استيطاني إحلالي . إن حريتهم جزء لا يتجزأ من حرية الوطن ، وصمودهم امتداد لصمود شعبهم في كل الميادين .
لقد تحوّلت زنزانة الأخ مروان البرغوثي، في هذا المشهد الأخير ، إلى مختصر لرحلة النضال الفلسطيني ، إرادة صلبة، ووعي سياسي ، وإيمان بأن النصر مسألة ارادة سياسية ورؤية ووقت وصبر وتنظيم ، لا مجرد أمنية. والتهديد الذي واجهه بالأمس ليس إلا شهادة جديدة على أن الكلمة المبدئية المتمسكة بالتحرر الوطني أقوى من السلاسل ومن أشباه المدعو أبو شباب ومن ثقافة المهزومين بحجج واهية ، وأن إرادة الشعوب ، مهما طالت ليالي القهر ، قادرة على إسقاط جدران الزنازين ، مثلما أسقطت من قبل أنظمة استعمارية وحكومات عنصرية وديكتاتوريات فاشية في أماكن أخرى من العالم .
ولعل اللحظة اليوم مواتية لإحياء وتوسيع الحملة الدولية التي انطلقت قبل عقد من الزمن من "جزيرة روبن آيلاند " في جنوب افريقيا ، حيث مكان احتجاز الزعيم نيلسون مانديلا لعقود طويلة ، لتكون منصة جديدة للمطالبة بحرية القائد مروان البرغوثي وكافة الأسرى الفلسطينيين . تلك المبادرة، التي جمعت قادة دول ومناضلين عالميين وشخصيات حقوقية، ربطت بين نضال الشعب الفلسطيني وتجربة مناهضة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، مؤكدة أن الحرية والعدالة قيم عالمية لا يحدها زمان أو مكان . إن إعادة تفعيل هذه الحملة المستمرة اليوم ، في ظل الجرائم المتصاعدة للأحتلال من الإبادة والتطهير العرقي والتجويع والتهجير ، تمثل واجباً وطنياً وأخلاقياً وقانونياً وإنسانياً ، وتفتح الباب أمام حشد أوسع للرأي العام الدولي ولشعوب العالم المنتفضة من أجلنا للضغط من أجل إنهاء هذا الظلم التاريخي بحق شعبنا الأصلاني صاحب الأرض والتاريخ
وإطلاق سراح كل الأسرى مقاتلي الحرية بلا إستثناء .