نزيف العقول الفلسطيني: كيف نحول الهجرة من خسارة إلى فرصة اقتصادية؟

الكاتب: د. سعيد صبري
تشهد فلسطين اليوم واحدة من أعلى معدلات البطالة في تاريخها الحديث، بل ومن بين الأعلى عالميًا، حيث ارتفع المعدل العام في عام 2024 إلى نحو 51%. هذا الرقم غير المسبوق يعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الفلسطينيون، ويشكّل عاملًا رئيسيًا في دفع الشباب وأصحاب الكفاءات إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل. وهكذا تتحول الهجرة من خيار فردي إلى ظاهرة جماعية تنذر بفقدان رأس المال البشري، الذي يُعتبر أهم أصول أي اقتصاد.
أسباب الهجرة الاقتصادية
تُظهر الأرقام أن معدل البطالة في الضفة الغربية وصل إلى 35%، فيما بلغ في غزة نحو 80%، ما يعكس تفاوتًا حادًا بين المنطقتين. ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ارتفع معدل البطالة بين المشاركين في القوى العاملة في الضفة إلى 31% في عام 2024 مقارنة بـ 18% فقط في 2023، بينما بلغ المعدل الوسطي خلال الفترة من أكتوبر 2023 حتى سبتمبر 2024 نحو 34.9% بحسب منظمة العمل الدولية.كما ارتفع عدد العاطلين عن العمل من حوالي 129 ألفًا إلى أكثر من 317 ألفا خلال هذا الإطار الزمني. وتشير الإحصاءات إلى أن البطالة شملت الذكور بنسبة 31.7% والإناث بنسبة 30.1%، ما يؤكد أن الأزمة شاملة وغير مقتصرة على فئة بعينها. ومع هذا الواقع المظلم، يصبح البحث عن فرص في الخارج مخرجًا شبه وحيد للكثير من الشباب.
الأثر على سوق العمل
رحيل الكفاءات في قطاعات حيوية مثل الصحة والهندسة وتكنولوجيا المعلومات يترك فجوات يصعب سدها محليًا. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من 1000 طبيب فلسطيني غادروا للعمل في الخارج خلال الأعوام الخمسة الماضية، إضافة إلى مئات المهندسين والمبرمجين. ومع كل طبيب أو مهندس يغادر، تخسر فلسطين استثمارات تعليمية وتدريبية قد تصل إلى 50–70 ألف دولار للفرد، تشمل سنوات التعليم الجامعي والتدريب العملي.هذه الفجوات لا تنعكس فقط على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، بل تضعف أيضًا قدرة الاقتصاد المحلي على الابتكار والتنافسية، وهو ما يفاقم حلقة التراجع الاقتصادي.
الأثر الاقتصادي الأوسع
على المدى الطويل، تؤدي الهجرة إلى تراجع معدل الإنتاجية وتقلص القدرة على المنافسة في القطاعات التي تتطلب مهارات عالية. وتشير بعض الدراسات الإقليمية إلى أن خسارة 10% من القوى العاملة الماهرة قد تخفض معدل النمو الاقتصادي السنوي بنحو 0.5 إلى 1 نقطة مئوية، وهو ما يترجم مباشرة إلى انخفاض في معدلات الدخل وتراجع مستويات الرفاه.
الجوانب الإيجابية الممكنة
ورغم قتامة المشهد، فإن الهجرة تحمل في طياتها بعض الإيجابيات إذا أُحسن استثمارها. فالتحويلات المالية التي يرسلها المغتربون الفلسطينيون بلغت في عام 2023 نحو 3 مليارات دولار، أي ما يعادل حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي بذلك تشكّل أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، وتدعم بشكل مباشر الاستهلاك المحلي وتمويل نفقات الأسر.
كما أن شبكات المغتربين في الخليج وأوروبا وأمريكا الشمالية تمثل فرصة استراتيجية لفتح أسواق جديدة أمام المنتجات الفلسطينية، وجذب استثمارات مباشرة، ونقل التكنولوجيا والخبرات إلى الداخل.
من الخسارة إلى المكسب
لتحويل الهجرة من خسارة إلى فرصة، لا بد من تبني استراتيجية مزدوجة:
1. الحد من النزيف الداخلي عبر تحسين بيئة العمل المحلية، وخلق فرص تشغيل في القطاعات الواعدة مثل التكنولوجيا الخضراء والصناعات الإبداعية، مع تطوير برامج تدريب مرتبطة مباشرة باحتياجات السوق.
2. استثمار طاقات الخارج من خلال برامج تربط الكفاءات المغتربة بالمشاريع المحلية، سواء عبر العمل عن بُعد أو عبر شراكات استشارية قصيرة الأمد.
3. تشجيع استثمارات المغتربين عبر تقديم حوافز ضريبية وضمانات قانونية في القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة.
4. إطلاق مبادرات العودة المؤقتة، التي تسمح للمغتربين بالعمل في فلسطين لفترات محددة، لتدريب الكوادر المحلية ونقل الخبرات، كما فعلت دول مثل الهند والفلبين بنجاح.
السؤال الغائب عن السياسات
لكن السؤال الأهم هنا: هل تضمنت الخطط الاستراتيجية الوطنية، التي أُعدّت وصودق عليها في المراحل السابقة، معالجة جدية لملف الهجرة الاقتصادية للشباب؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فما هي البرامج والإجراءات العملية التي نُفذت آنذاك، وما مدى فعاليتها في تقليص هذا النزيف المستمر؟أما في المرحلة الحالية، فهل أولت الاستراتيجيات الجديدة هذا الملف أولوية حقيقية باعتباره قضية تنموية وأمنًا اقتصاديًا ووطنيًا، أم ما زالت المعالجات مقتصرة على مبادرات متفرقة لا ترقى إلى مستوى التحدي القائم؟
خاتمة
الهجرة الاقتصادية للشباب الفلسطيني ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة لبيئة اقتصادية وسياسية يمكن إصلاحها إذا توفرت الإرادة والسياسات الملائمة. وبينما نعمل على تقليل نزيف العقول، علينا أن نتعامل مع المغتربين كجزء من الحل لا كخسارة نهائية. فهم يمتلكون القدرة على المساهمة في بناء اقتصاد أكثر استقلالية وقوة، إذا ما أُنشئت القنوات التي تربطهم بالوطن وتتيح لهم الاستثمار في مستقبله، وتحويل الغربة من قطيعة إلى جسر للتنمية.
بقلم: د. سعيد صبري – مستشار اقتصادي دولي – عضو هيئة التحول الرقمي الدولية