أصوات تنافس هدير البحر
الكاتب: توفيق وصفي
رايه نيوز: في أحلى ساعات النوم النادرة يقرصك نداء لاسع، لصبي يكرر بصوت كالصفير "كعك كعك"، تحاول تفاديه بغمر رأسك في حضن مخدتك، فيخزك صوته الذي يزداد حدة "كاعيـــك"، تحتمله إلى أن ينعطف إلى حارة أخرى متشبثا بما علق من خيوط حلمك المبتور، لكن صوت صبي آخر أشد حدة يحبطك بنداء مماثل "كوووعيييييك"، يُخرجانك عن طورك حين يتبارزان بتلوين مفردة "كعك"، بالمطّ حينا والتتابع المتصاعد حينا كالصفعات "كعك كعك كعك.."، فتندفع إلى الشرفة هاتفاً "في عرض الله، ارحمونا"، يصرخ أحدهما في وجه الآخر "عَجَبك، خلّيت العالم تبهدلنا"، يرد الآخر الذي يشبهه كثيراً وأظنهما شقيقان "هاي حارتي"، ثم يشتمه الكبير ويكاد يركله، فترميهما بالتهديد بالنزول إليهما إن لم يغادرا، يغادران كل في اتجاه وهما يتناكفان وربما يناكفانك "كعك.. طازة يا كوعيك".
تظن أن في إمكانك العودة إلى النوم، لولا نداء ثقيل لصوت أجش يتلوه نهيق حمار يدخل الحارة، "فلفل أحمر بالبُكسة"، يُتبعها بعد ثانيتين بنداء آخر "بالبكسة يا فلفل"، وسرعان ما يطل من الطرف الآخر للحارة رأس حمار آخر يجر كارة، يسبقها صوت البائع هاتفاً عبر ميكروفون يخرخش "يللا.. بندورة بالبكسة"، "حمرا يا بندورة"، وحين تلتقي العربتان "الكارّتان" يهيج الحمار على الحمارة، يشتمه صاحبه قائلا "يغضب عليك ما أحمرك"، فيما يتبادل البائعان تحية الصباح بالتلويح بسوطيهما بوجوه مقطبة.
بدأ النهار وتتابعت قوافل البائعين المتجولين من اليمين واليسار، كل ينادي على بضاعته بنداء مختلف، يجمعهم في الغالب افتقاد نداءاتهم وأصواتهم أي ملاحة أو طلاوة أو موسيقى، يغيّرون في ترتيب مفرداتها في لازمة تتكرر مع سعالهم ونهرهم دوابهم، "ملوخية حبشية.. حبش يا ملوخ"، "العشرة كيلو ملوخية بميّه"، أي بعشرة شواقل، محاولاً السيطرة على بائع الباذنجان الذي كان يدخل الحارة هاتفا "باذنجان بلدي بالبكسة"، "بثمانية شيكل البكسة"، فارتفع صوت الأخير مناديا "أسود يا بيتنجان".. نداء "حلب يا حبايب حلب"، يأتي عند الضحى أو قبل المغيب، ليضمن المنادي وجود عشرات الأطفال اللاهين في الحارة، "حلب حلب حلب"، فيهلّون عليه فرادى أو زمراً، كل يحمل شيكلاً، وحين يتأخر خروجهم من منازلهم في الجو الحار يطقطق على قدر الحلب بسكينه هاتفاً "حلب حلب حالاب"، غير آبه بقيلولة العباد ولا راحتهم.. "الحلب" هنا لا علاقة له بمدينة حلب السورية، المقصود غزل البنات "شعر البنات".
يتواصل النهار في السوق الذي نعيش فيه مع نداءات أخرى، "كلور كلور"، بل مع أكثرها طرافة "جبنة لبن لبنية"، ثم "لبن لبنية"، يصمت برهة كأنه يُكلم نفسه ثم يُطلق عصارة ندائه الترويجي"حليب يا لبن.. لبن يا حليب"، يغيب ليحل باعة ما بعد "الحصار"، "اللي عنده طحين خربان للبيع"، "ثلاجات غسالات مراوح للبيع"، "سجاد سجاد.. معانا السجاد العجمي، زيّن بيتك بالعجمي"، وهو طبعاً لا عجمي ولا صيني، وعلى امتداد النهار لن يحرمك بائعو الماء والغاز من أبواقهم المزعجة حدّ مسّك بالصرع، موزعو الغاز يستخدمون نغمة ثلاثية تشبه نفير سيارة الإسعاف، بينما يستخدم باعة المياه نغمة السيمفونية الأربعين لموتزارت، التي حوّلها الرحابنة إلى أغنية "يا أنا يا أنا أنا وياه" للسيدة فيروز.
تحت الشمس في تموز، تَرى من تحت مظلتك طاقيات تُغطي رؤوس الباعة، أو قطعاً قماشية بالية تُغطي الرؤوس والبضاعة كالبندورة، وترى صبية وشباناً وكهولاً يقفون فوق سيارات الماء والغاز للتحميل والتنزيل، تحت الشمس نفسها، تلمع أجسادهم بالعرق، يزدادون اسمراراً وكلاحة، لا تملك أن تحنق عليهم، لعلهم أحوج إلى الشفقة، بالرغم من روث الحمير الذي لا يخلو شارع أو حارة منه، وما يسقط من ثمار البندورة وعروق الملوخية.
يأتي رجلان أشيبان منهكان بعربة يدوية عليها برميل للنفايات، يجمعان بمكنسة أو مشط زراعي بعض ما تجمع في الطريق أو على جانبيه، يتبول أحدهما بمحاذاة حائط قديم، وهو يقول لزميله بصوت واضح "خلِّصنا، والله عشرة زينا ما بينظفوا هالشارع"!
يهدأ كل شيء في الحارة، بعد المغيب، وكأن هؤلاء هم صخبها وحركتها، تود أن تُغيّر المكان، تذهب إلى البحر ظاناً أنه سيكون أهدأ من سواه، تجد أن عالماً آخر من الضجيج ينتظرك، باعة يروجون بنداءات لكل ما يؤكل ويُشرَب، موسيقى وأبواق سيارات، هدير بشري ينافس هدير البحر، وروائح تمتزج فيها الفلافل بالذرة المشوية بالشاورما بالأرغيلة بعادم المركبات.. تقفل عائداً إلى منزلك المعتم الحار، تخترع فكرة أكثر واقعية من محاولة مستحيلة للنوم، تتوضأ وتصلّي مبتهلاً إلى رب الكون أن يفرجها، وأن يُجنبنا ما هو أكثر عبثية، ولا تستح من ربك فتكتفي بأن تسأله اللطف في القضاء، بل اسأله رده، وهو على كل شيء قدير!.