التربية على الهوية: الموسيقى والغناء والرقص مثالا
الكاتب: تحسين يقين
للمغني أن ينجح فيما لم ينجح فيه المربون والمفكرون والساسة والحكومات والأحزاب الوطنية والقومية؛ ذلك أنه ينبع من تلقائية التعبير عن مشاعره تجاه محيطه الصغير والكبير حتى العالم.. وتجاه نفسه وذاته!
لمشاعره الفردية كإنسان ولمشاعره الوطنية والقومية والإنسانية أيضا كإنسان يغني ويعزف!
ماذا يعني اندماج الكبار مع الأطفال في المشاركة في حفل موسيقي يحييه الصغار!
هل هو من قبيل وجود ذائقة جماعية؟
هل عبرّت الأغاني واللوحات المختلفة عنهم؟
هل وجدوا أنفسهم وثقافتهم الموسيقية والفنية وتذكاراتهم الحميمية فيها؟
الجواب، نعم.
هناك ما يجمعنا معا عبر مجالات وإبداعات وأفعال كثيرة، وهي ضرورية لعقدنا الاجتماعي حتى يبقى.
هل من فكرة هنا؟
ربما تأتي الفكرة أيضا من خلال الخبرات الشخصية في تذوق الفنون، وما يمكن أن توحي به في موضوع الهوية، ثم الأهم ما يمكن أن تقدمه لآخرين، تربويين ومثقفين وساسة في التعامل بموضوع الهوية.
كغيري من الآباء والأمهات، اعتدت على تعرض أطفالي لعدة أشكال من الموسيقى والغناء؛ فأسمعتهم مما أسمع، ومما يتوفر لدي من موسيقى وأغان خاصة بالأطفال..
فسمعنا معا أغان فولكلورية للصديق روني روك ابن الناصرة، وسمعنا أغان فلسطينية ووطنية وعربية للأطفال ماما زمنها جاية..، وأغان تركية وموسيقى سيمفونية..وأغان دينية ومسرحيات غنائية، كما استمعوا لعدد من ألبومات صابرين، وموسيقى وحكايات وأغاني وليد عبد السلام.. وحينما كنت أعمل على بحث حول شعر محمود درويش الذي تم تلحينه وغناؤه، راق لطفلي الصغير أحمد أغاني مارسيل خليفة، التي لم أسمعها أنا أصلا إلا على كبر؛ فغنى أحمد مع مارسيل تصبحون على وطن..
أما ألبوم "بابا أبه" الذي أحضرته لهم وهم في اللفة، فقد ضاع!
والجود هو من الموجود..
ثم سمعوا باختيارهم أغاني الأطفال للننوسة نانسي عجرم، وكاظم الساهر وهيفاء وهبي، بل استمعوا لأغاني المطربين الجدد، مثل تامر حسني..
كنت أود وما زلت أن يتعرف الأطفال على أكثر من لون في الموسيقى والغناء، لتتسع أذواقهم وصدورهم وخيالاتهم..!
كأب وتربوي، ومواطن، كان في بالي دائما أن التربية على الاستماع للموسيقى، وحضور الحفلات الفنية، هو جزء من التربية والتنشئة، فقلت لأعرضهم بما أختار لهم، ومما يتوفر، فأكسب تعرفهم على الموسيقى والغناء، من هنا وهناك، ثم حينما يكبرون، فإنهم يصبحون أكثر قدرة في الاختيار..
ورغم ميلي إلى تحقيق هدف المتعة الفنية لهم، إلا أن هدفي في التربية على الهوية من منظور متوازن، جعلني أجمع لهم ما تيسر من المحلي والوطني والعربي والشرقي والعالمي، ومن مذاهب مختلفة، أكانت فولكلورا أو سيمفونيا أو موسيقى معاصرة!، مستفيدا من إمكانيات المسموع والمرئي والالكتروني!
إن اختيار الموسيقى والغناء يلائم عالم الأطفال، بهدف إمتاعهم، وهذا شيء مهم بحد ذاته، له علاقة بحق ترفيه الطفل، وحق تعليمه أيضا، وبهدف تربيتهم وفق عناصر خاصة بالهوية الفلسطينية وما فيها من عناصر المحيط العربي والشرقي والعالمي.
نحن نبني البيوت من عناصر البيوت، بيت من حجر..بيت من شعر..ومن خرز ومن عجين...، كما هي حال بيوت أخوة نص نصيص في الحكاية الشعبية المعروفة!
فكيف تبنى الهوية الفردية والجماعية؟
في الحفل الختامي لأندية مؤسسة صابرين للتطوير الفني الموسيقية في أول هذا الصيف، كنت أرصد علاقة الأطفال المشاركين بالموسيقى والرقص والغناء، وأثر ذلك على شخصياتهم وسلوكهم، وأرى ممارستهم للعزف والغناء والرقص، وقد لاحظت كيف اندمج الحضور من تربويين وأهالي طلبة مع العرض..حتى لكأنهم راحوا يحاكونهم، وصاروا أكثر تحررا حركة واتصالا مع الآخرين.
ثم وجدتني أرصد قيما تربوية وأخلاقية لها علاقة بالتعاون والمحبة والصداقة، خصوصا أن الأطفال المشاركين قدموا من محافظات مختلفة..فلا يمكن أن تنجح الدبكة الشعبية أو الجوقات الغنائية بدون تعاون حقيقي، ينبع من الداخل، ويتأسس على احترام الآخرين المشاركين.
ثم وجدتني أذهب إلى مناطق أخرى من البحث حين تتالت لوحات العرض المتنوعة ما بين الوطني والفلكلوري والشرقي والتعبيري..
عكست اللوحات في تنوعها الموسيقي هوية مؤسسة صابرين للتطوير الفني، والتي تقوم على تعريض الطلبة للموسيقى الوطنية والعربية والشرقية، بشكل عام؛ فقد ابتدأ العرض بلوحة إيقاعات، فلوحة محبة للوطن تعانقت فيها الموسيقى والدبكة، فدبكة طيارة، ثم لوحة شرقية من الموشحات (اه يا زين العبدين) فعودة إلى الموسيقى الفولكلورية، حيث حافظ العرض على المزاوجة الفلكلورية مع اللوحات الشرقية والوطنية، مختتما بلوحة الحلم العربي.
في حديثي مع الموسيقار سعيد مراد، علمت أن أسلوب مؤسسة صابرين، في برنامج الموسيقى للجميع، يقوم على التعامل مع مختلف الأذواق والمشارب الفنية، وهكذا رأينا كيف عزف وغنى الأطفال عدة ألوان غنائية، من الفولكلور حيث القوالب اللحنية، والموسيقى التقليدية، والأغاني الوطنية والقومية، في حين شاهدنا الباليه في لوحة، تتلو لوحة طيّارة، انسجاما مع وضع الموسيقى والرقص في المجتمع بشكل عام..
في هذه اللوحات، أحب وتعرف الأطفال على الموسيقى من أماكن مختلفة، ومن مذاهب مختلفة أيضا..وفي هذا تعميق لا واعي، للهوية وعناصرها، سواء عناصرها الوطنية الفلسطينية، أو من العناصر العربية القومية ثم الشرقية كإطار أوسع فإطار عالمي إنساني رحب.
أي سيرى الطفل نفسه كطفل من هذا المكان الذي هو جزء من الوطن العربي، والذي هو بالتالي جزء من العالم.
أي أن هناك فرصة لتتكامل دوائر الهوية، حيث سينتمي لفلسطين والعروبة والإنسانية، فيكون إنسانا فلسطينيا، وإنسانا عربيا، وإنسانا عالميا أيضا ينتمي له، كما ينتمي لوطنه الصغير، وليس هناك من تناقض في الانتماءات، إنها تتكامل وتتداخل، كتكامل الإنسان وانتمائه لهذا العالم وهذا العصر.
ثمة لوحات تصب في تعميق الهوية الوطنية والفولكلورية والقومية، بجامع الموسيقى الشرقية، والتي تجمع أيضا ما بين الفلسطيني كعربي والعربي شقيقه، وتجمعهما معا مع المنتمين للموسيقى الشرقية.
أن التربية على التعددية الموسيقية، يصب في تعميق التعددية داخل مجتمعنا الفلسطيني كمجتمع عربي، ويرتقي بالسلوك والفكر، ويقطع الطريق على أية دعوات انعزالية أو عنصرية أو ماضوية.
من جهة أخرى فإن وجود ألوان موسيقية وغنائية تنتمي لعصور مختلفة، تعمق تاريخ الفنون، والموسيقى في نفس الطالب وعقله، ويجعله يقرأ واقعه على ضوء ما تراكم من خبرات موسيقية، لم تلغ إحداها الأخرى، بل تكاملت معا، وظلت معا، وأضيف إليها الجديد، فصرنا نطرب لهذا الجديد الذي يعبر عنا الآن، كما نطرب للقديم الذي عبر عن الأقدمين؛ فالتربية على "يا زين العبدين يا ورد مفتح بين البساتين" و"مسيكم بالخير" يأتي في هذا السياق..ويتعمق مع الغناء القومي المعاصر كما أغنية "الحلم العربي".
في آخر الحفل، وجدنا جميع الأطفال المشاركين يغنون معا ويعزفون ويرقصون؛ فهل من دلالة أعظم من دلالة تعايش الألوان معا، كتعايشنا نحن معا على هذه الأرض، وفي هذا العالم أيضا.
مرة أخرى: ماذا يعني اندماج الكبار مع الأطفال في المشاركة في حفل موسيقي يحييه الصغار!
وماذا يمكن أن يوحي به هذا المقال في موضوع الهوية؟ ماذا يمكن أن نقدمه لآخرين، تربويين ومثقفين وساسة في التعامل بهذا الموضوع؟
لقد تواص الأطفال فيما بينهم، ثم تواصل المشاركون في الحفل معا ومعنا، فصارت الموسيقى جسرا يضمنا ونسير عليه، إذن لماذا لا نكون كذلك في مجالات الحياة الأخرى؟ لماذا لا يكون اختلافا هم من قبيل التعددية الموسيقية المحببة التي تضمن ألا نقع في ملل اللون الواحد؟
ليست التربية على الهوية التي تضمن التوازن والاستقرار والتعددية والتعاون أمرا صعبا أو مستحيلا؛ ولا هو صعب أن نكون معا ضمن خصوصية ثقافتنا المنتمية لسياقها القومي والإنساني، بما فيها من عناصر الثقافة وعناصر الوحدة التي تجمع ولا تفرّق، فقط نحتاج إلى بعض الوعي وكثير من الحب والإنسانية والعلم والأدب والفن والموسيقى!
للمغني أن ينجح فيما لم ينجح فيه الآخرون من خارج عالم الفنون.. وله أن يغني للعيون العسلية والعيون السود والزرقاء.. لمشاعره الفردية الذاتية كإنسان ولمشاعره الوطنية والقومية والإنسانية أيضا كإنسان يغني ويعزف!