داعياً لتعزيز استقلالية النيابة العامة
ائتلاف أمان يناقش مسودة تقرير حول استقلالية النيابة العامة الفلسطينية وأثرها على نزاهة الحكم
عقد الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) لقاءً حوارياً تشاورياً لمناقشة مسودة تقريره بعنوان: "واقع استقلالية النيابة العامة الفلسطينية وأثر ذلك على النزاهة في الحكم"، وذلك بمشاركة ممثلين عن ديوان الرقابة المالية والإدارية، وهيئة مكافحة الفساد، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ونقابة المحامين، وعدد من مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالعدالة وسيادة القانون وحماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان، وذلك للمساهمة في بلورة سياسات إصلاح مركز النيابة العامة لتعزيز دوره في نزاهة الحكم.
افتتح الجلسة المدير التنفيذي لائتلاف أمان، عصام حج حسين، الذي أوضح أن الجلسة تهدف إلى تبيان واقع النيابة العامة في النظام الدستوري الفلسطيني، وعلاقتها بمنظومة الحكم وسلطاتها الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية). كما تنناول أثر استقلالية قرارات النيابة العامة وانعكاس ذلك على مستوى النزاهة السياسية، باعتبارها جهة الادعاء الرسمية عن السلطة التنفيذية، وإلى أي حد تؤثر علاقتها بهذه السلطة على أدائها كحامية للحق العام وضامنة لسيادة القانون، إضافة الى مكافحة الفساد ومنع الفاسدين من الإفلات من العقاب، مشيراً أن واقع سياسة الانغلاق وعدم إتاحة المعلومات كان أبرزها عدم الموافقة على إجراء مقابلات ذات علاقة بإعداد التقرير.
وبدوره، استعرض معدّ التقرير، الباحث ماجد عاروري دور النيابة العامة كحجر الزاوية في منظومة العدالة الجنائية، موضحًا مسؤوليتها عن تحريك الدعوى العمومية نيابة عن المجتمع وحماية الصالح العام وضمان احترام القانون وصون الحقوق والحريات. وبحكم موقعها، تمثل النيابة صمام أمان يوازن بين الأمن المجتمعي وضمانات المحاكمة العادلة، وترسيخ مبدأ المساواة أمام القانون. وأشار العاروري إلى أن واقع عدم استقرار علاقة النيابة بالسلطة القضائية والتنفيذية، وتعطّل المجلس التشريعي، أثّرا على استقلالها وفاعليتها.
وجود فجوة بين النصوص القانونية والممارسة العملية
أظهر التقرير مجموعة من الاستنتاجات التي تُبرز أوجه القصور البنيوي والوظيفي في أداء النيابة العامة، ما يعرقل دورها في تعزيز العدالة وسيادة القانون، حيث تكشف الاستنتاجات وجود فجوة بين النصوص القانونية والممارسة العملية. لا تزال النيابة العامة الفلسطينية محكومة بإطار قانوني غير مكتمل، حيث لا يوجد قانون خاص ينظم عملها، ما جعلها عرضة لتدخلات السلطة التنفيذية وأضعف قدرتها على أداء دورها كجهة ادعاء مستقلة، حيث أن آليات تعيين النائب العام ووكلاء ومعاوني النيابة تخضع لإرادة السلطة التنفيذية دون مشاركة فاعلة من مجلس تشريعي، أضعف الضمانات المؤسسية للاستقلال، وترك النيابات المتخصصة دون إطار تنظيمي معتمد، مما يساهم في ضعف التنسيق ويؤثر على الأداء المتوازن في القضايا المتخصصة مثل الجرائم الاقتصادية أو الجرائم الإلكترونية أو قضايا مكافحة الفساد.
التحديات العملية وضعف الشفافية والمساءلة
أظهر التقرير أن دور النيابة في التعامل مع قضايا الفساد محدودًا، حيث يعاني من بطءٍ في التعامل مع الملفات ذات الحساسية السياسية أو المالية الكبيرة أو المتعلقة بمسؤولين كبار. ولا توجد آلية رقابية رسمية فعالة على قرارات النيابة، بما في ذلك قرارات الحفظ أو الإحالة، كما أن الطعون أمام المحكمة العليا على هذه القرارات تظل محدودة الأثر في تحقيق المساءلة.
مقارنة بالتجارب الدولية، تبقى النيابة الفلسطينية أقرب للنموذج المرتبط بالسلطة التنفيذية، ولا تتوافر فيها ضمانات الاستقلال والحياد والفعالية التي حققتها تجارب مثل المغرب أو تونس أو حتى أوكرانيا في ملفات الفساد. إضافة إلى ذلك، لا تُصدر النيابة تقارير أداء مفصلة للجمهور بشكل دوري، ولا تنشر بيانات واضحة عن نسب الحفظ أو أسباب الإحالة أو نسب تنفيذ الأحكام، ما يضعف الشفافية والمساءلة المجتمعية، ويحدّ من ثقة الجمهور في أدائها.
إصدار قانون خاص ينظم عمل النيابة العامة
وفي ضوء ذلك، يؤكد التقرير أن التطوير الحقيقي للنيابة العامة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تبني رؤية إصلاحية متكاملة للحوكمة تشمل إعادة بناء وتحديد علاقاتها الإدارية والمالية، من خلال الإسراع في إصدار قانون خاص ينظم عملها، واعتماد آليات شفافة وتنافسية في التعيينات، تضمن استقلالها عن السلطة التنفيذية، وتُخضعها لرقابة رسمية فعالة، وإنشاء نظام متكامل للرقابة الداخلية والخارجية، تكون النيابة العامة على إثره ملزمة بإصدار تقارير دورية علنية حول الأداء وقرارات الحفظ والإحالة، بما يعزز المساءلة الداخلية ويضمن التزامها بالمعايير المهنية.
الشفافية والمساءلة والشراكة
ولفت التقرير إلى أهمية نشر جميع إعلانات التعيين والوظائف والمسابقات على موقع رسمي وبوابة إلكترونية خاصة بالنيابة، لتعزيز الشفافية أمام الجمهور. كما أوصى التقرير بإلزام النيابة بإصدار تقرير سنوي مفصل للجمهور، يتضمن إحصاءات الأداء ونسب الحفظ والإحالة وأسبابها، ما يقوي الثقة العامة في عمل النيابة. وأكد التقرير على ضرورة تبني سياسة الشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني والجهات الحقوقية، وتوقيع بروتوكولات تعاون مع هيئة مكافحة الفساد لضمان التكامل وتفادي ازدواجية الإجراءات.
وبدوره، أوصى المحامي الأستاذ كريم حمّود من نقابة المحامين، على ضرورة تعزيز كوادر النيابة العامة باستحداث قاض تحقيقٍ ضمن قانون الإجراءات الجزائية لضمان رقابة تحقيقية فعلية على قرارات التوقيف والتمديد، لأن النيابة العامة في المحافظات تواجه ضغطاً متزايداً ترتب عليه استسهال إحالة ملفات عديدة إلى المحاكم مباشرة كما ترد من الضابطة العدلية دون فتح تحقيق فعلي. وأشار حمّود إلى أن هذا النهج ينتقص من حق المتهم في تقديم دفوعه وأدلته، لافتاً إلى أن السماح للمتهم بتقديم بيناته أمام النيابة قد يفضي إلى قرارات مبكرة بالبراءة.
فيما أشار الأستاذ جفال جفال، مدير عام ديوان الرقابة المالية والإدارية أنّ الديوان أصدر عدة تقارير تخصّ النيابة العامة في الجوانب المالية والإدارية، من بينها تقرير سابق حول التعيينات في النيابة، والذي أفضى إلى إلغاء نتائج المسابقات آنذاك استناداً لتوصيات الديوان. كما أشار إلى إشكالية نقل موظفين من الخدمة المدنية إلى النيابة العامة دون ضوابط. ولفت إلى أن النيابة العامة لم تكن مدرجة ضمن الموازنة العامة قبل عام 2013، ما يثير تساؤلات حول استقلاليتها وما إذا كانت تُعد مؤسسة أم شعبة من السلطة القضائية. وأوضح أن قرارات النيابة تنقسم إلى إدارية تخضع للرقابة الإدارية، وقضائية تخضع لضوابط استقلال القضاء. كما شدد على أن الاستقلالية يجب أن تُمنح لأجهزة الرقابة العليا والسلطة القضائية في مجالات مثل تعيين رئيس المجلس والقضاة والنيابة، وليس فقط في الجوانب المالية والإدارية.
أوضح الدكتور عزمي الشعيبي، مستشار مجلس إدارة ائتلاف أمان لشؤون مكافحة الفساد، أن أحد أبرز مرتكزات النزاهة في الحكم تُقاس في نزاهة الوصول إلى السلطة سواء عبر الانتخاب أو التعيين، وهو ما يتطلب آليات واضحة وشفافة ومعلنة في تعيين رؤساء المؤسسات الرقابية والقضائية، تضمن فعاليتها واستقلاليتها الرقابية على السلطة التنفيذية. وبيّن الشعيبي أن تعيين النائب العام من قبل الرئيس لا يعني فقدان استقلاليته بعد أن يتبوأ الموقع، لأن قرار الرئيس كاشف وليش منشئ للقرار، إذ أن المجلس التشريعي قد تبنّى توجهاً يعتبر النيابة العامة جزءاً من السلطة القضائية، ولم يرد في صلاحيات الرئيس مسؤوليته عن النيابة في القانون الأساسي.
وأضاف الشعيبي أن معايير اختيار النائب العام وطرق الوصول للمنصب غير واضحة ولا تستند إلى بطاقة وصف وظيفي وقواعد معلنة معتمدة تضمن تكافؤ الفرص. وشدّد الشعيبي على أن الاستقلالية تعني عدم خضوع صاحب المنصب لأي ضغوط خارجية والتزامه بسيادة القانون، مؤكداً أن تعزيز النزاهة في الحكم والمصلحة العامة تقتضيان بأن يكون النائب العام مستقلاً بالكامل في قراراته.
فيما أوضح أشرف أبو حية من مؤسسة الحق، أن استقلال النيابة العامة والنائب العام يمثلان محورًا أساسياً في بنية النظام السياسي الفلسطيني، موضحًا أن ضمانات التعيين والعزل تمثل جوهر هذا الاستقلال. وأشار إلى أن التجارب السياسية المقارنة، بما فيها النقاش الدائر في دولة الاحتلال حول موقع المستشارة القضائية، تظهر كيف يمكن للتدخل السياسي في مواقع العدالة أن ينعكس مباشرة على نزاهة الحكم وفعالية الرقابة والمساءلة. وأوضح أبو حية أن تغييب الدور الرقابي للمجلس التشريعي تاريخيًا كان من جذور الإشكال، مشددًا على ضرورة أن تتضمن مشاريع الدستور والمعالجات القانونية المقبلة نصوصًا واضحة لضمان فصل السلطات واستقلال منصب النائب العام.
وأشار أبو حية إلى توصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 2023، والتي عبّرت عن قلقها من تأثير التعديلات القانونية الأخيرة على قانون السلطة القضائية على استقلال القضاء والنيابة العامة، مطالبة دولة فلسطين بمراجعة آليات التعيين لضمان الشفافية والحياد والكفاءة في اختيار القضاة وأعضاء النيابة. وأضاف أن ضعف استقلال النيابة ينعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين من خلال قضايا التوقيف في إطار حالة الطوارئ، إضافة إلى تأثيره على ملفات الفساد سواء في تحريك القضايا أو تجاهلها، الأمر الذي يمسّ ثقة الجمهور في منظومة العدالة والنظام السياسي ككل.
فيما قدّم عمار جاموس من الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان مداخلة أكد فيها أن الجدل حول طبيعة النيابة العامة—سواء كانت جزءاً من السلطة القضائية أو التنفيذية—لا يجب أن يمسّ قاعدة أساسية وهي أن إجراءات التحقيق الماسة بالحرية مثل التوقيف والتفتيش ومنع السفر يجب أن تكون بأوامر قضائية، انسجاماً مع مواد القانون الأساسي. وأشار إلى أن التطبيق الحالي يمنح النيابة صلاحيات التفتيش والتوقيف لمدة 48 ساعة دون الرجوع للمحكمة، وهو ما يتعارض مع مبدأ سمو القانون الأساسي.
كما أوضح جاموس أن جذور المشكلة تعود إلى إلغاء دور المجلس التشريعي في المصادقة على تعيين النائب العام، داعياً إلى العودة التدريجية إلى الإطار القانوني السابق لتعديلات 2019 و2020، ولا سيما قانون السلطة القضائية لعام 2000 الذي اعتبره إطاراً أكثر توازناً وملاءمة لضمان استقلال القضاء.
وبدوره، أكد المحاضر الجامعي، د. المحامي أيمن ظاهر، أن التخبط التشريعي والبنية الهرمية القائمة على التعليمات داخل النيابة يعززان تبعيتها للسلطة التنفيذية، وينعكسان على الأداء، بما في ذلك ارتفاع نسب البراءة في محاكم الصلح، وأوصى بإصدار قانون خاص ينظم هوية النيابة العامة بشكل واضح ويضع حداً للالتباس القائم حول طبيعتها.
فيما قدّمت حلا مرعي من محامون من أجل العدالة ثلاث ملاحظات رئيسية حول موقع النيابة العامة ودورها، مؤكدة أن أي حديث عن قانون خاص للنيابة يجب أن يُربط أولاً بمراجعة قانون دعاوى الحكومة، الذي أعاد تصنيف دور النيابة بين التمثيل الجزائي والتمثيل عن الدولة في بعض الدعاوى الحقوقية. وأوضحت أن النيابة، في الواقع، تمارس دوراً تنفيذياً يمتلك نفوذاً واسعاً، سواء في جمع الأدلة أو التحكم بالمعلومات أو إدارة التمديدات في القضايا، مما يجعلها طرفاً غير متكافئ مع الدفاع.
وأشارت إلى وجود تضارب وتمييز في تمثيل الجهات الحكومية أمام القضاء، حيث يتداخل دور النيابة مع دور المحامين الخاصّين، ما يخلق نزاعات اختصاص ويؤثر على نظرة المحكمة لطبيعة هذا التمثيل. كما لفتت إلى إشكالية دور النيابة في الدعاوى المدنية، وبالأخص ما يتعلق في التنفيذ، والتباطؤ الذي يمس حقوق الأفراد. وشددت على أن تداخل الأدوار يجعل مسار تنفيذ الأحكام غير واضح، ويعزز حالة الخلط في الصلاحيات التي تتطلب معالجة تشريعية وتنظيمية واضحة.

