مع الأنفاق مرة أخرى: المقابر الجماعية المألوفة في غزة
خاص – مكتب غزة- (شبكة راية الإعلامية)
كتب رمزي أبو جزر:
عندما يكون ثمن البقاء على الأرض في أدنى صوره، هو مواجهة الموت اضطراراً في باطنها .. فهذا يعني الانتحار في أبشع أشكاله، وان منحوه وصف الشجاعة أحيانا.. فالشجاعة هنا تحامل على النفس والواقع للبقاء على قيد الحياة ، هذا النص القاتم هو خلاصه محاولات استنطاق مأساة الصامتين في غزة عبر سبر أغوار معاناتهم، ومحاولة الخروج بها من النفق المظلم إلى النور لكي تبصر الحياة المفقودة في القطاع تحت إلحاح الحاجة والظروف الاقتصادية المتردية التي تدفع بصاحبها إلى نبش الأرض والعمل داخل قبور محتملة لتأمين الحياة لمن هم فوقها.
هي قصة الإنفاق إذن التي تنتشر على طول الحدود الجنوبية بين مصر وقطاع غزة ، هذه الحكاية التي بدأتها إسرائيل عام 2007 عندما فرضت الحصار الاقتصادي والإنساني المجحف على أكثر من مليون وسبعمائة ألف إنسان في محاولة لكسر الإرادة عبر الجوع، لكن هذه المدينة لا تيأس، تكشف لك عن باطنها إذا تعذر ظاهرها فينقلب حصارها إلى انتصار وان كان مكلف ومخيف.
الحياة تحت تهديد الموت
يقول محمد 35 عاما يعمل في الأنفاق كل يوم أواجه الموت واراه أمام عيني ، أودع أطفالي كمن يذهب إلى حتفه ، لم اذخر جهدا في البحث عن حياة وعمل لائق "لا يوجد فرص عمل" .
يضيف محمد كل يوم أرى الخوف في عيون من حولي خاصة زوجتي وأمي، لكنني لا أقوى على رؤية نظرة الحرمان والحاجة في عيونهم، فاندفع للعمل وان كان الموت هو المصير.
إبراهيم خليل 27 عاما يعمل في الأنفاق يقول أنا أعمل لمدة 10 ساعات مقابل 50 شيكل فقط، بالفعل إنه مبلغ زهيد لكي يفقد إنسان حياته لأجله، لكنه يقول "لا يوجد أي دخل أو عمل غير ذلك (..) وفور لي عمل بأقل من ذلك المبلغ وأنا مستعد له " .
ويسترجع إبراهيم ذكريات العمل في الأنفاق وفي أغلبها مؤلمة: "لقد فقدت اثنين من أصدقائي داخل الأنفاق نتيجة الانهيارات المتكررة للتربة وهناك قتل أكثر من واحد نتيجة الماس الكهربائي".
حسين (25) عاما يقول الخروج من النفق بعد يوم عمل شاق يكون الموت فيه هو احتمال أكيد هو بمثابة عمر جديد كتب لك، سرعان ما يختفي في اليوم التالي عندما تعود لذات الحفرة مرة أخري .
يقول حسين أن التغلب على المخاوف داخل النفق يكون عبر تناول دائم لحبوب "الترامدول" لكي نستطيع مواصلة هذا العمل الشاق"0
خريجون جامعيون يعملون في الأنفاق
قد تفاجئي عندما تستمع قصص يرويها أناس تحجرت عيونهم من الخوف عن مواقف قربتهم من الموت لكنها لم تكشف لهم كذلك عن الحياة .
عماد خريج جامعي لم يجد بعد تخرجه فرصة للعمل فاتجه صوب الأنفاق لتأمين مصروفاته ولعائلته التي انتظرت أن يصبح موظفا ويعيل والده المسن وإخوته الخمسة، لكن الظروف الصعبة وعدم توفر فرصة عمل طبيعية دفعته للبحث عنها داخل الأنفاق .
يحدثك عماد والألم والمرارة واضحتين في عينيه وعلى جسده الذي أنهكه هذا العمل المضني انه يحاول أن يرد جزء من العرفان ويساعد أسرته في توفير الحد الأدنى للحياة .
من بين الذين إلتقيناهم مهندس كهربائي يعمل في داخل الإنفاق، ومهمته الإشراف على شبكة الكهرباء داخلها يتحدث بسخرية موجوع ، ويقول على الأقل أنا بعمل في مجال تخصصي لكن في المكان الخطأ.
يحدثك لقد طرقت جميع الأبواب مؤسسات عامة وخاصة للحصول على فرصة عمل لكن لا مجيب فقط هي مشاريع مؤقتة وبطالات لا تسد الرمق .
أبو السعيد صاحب نفق يقول لا ضمانات ولا حقوق لمن يعمل داخل هذه الأنفاق سوى مبلغ بسيط يعطي لأهل الضحية في حال موته يقدر ( 10 آلاف دولار ) فقط ، وهو مقر من قبل اللجنة التي تشرف على الأنفاق.
ويضيف أبو السعيد أن أعداد كبيرة تأتي كل يوم من الشباب للعمل داخل الأنفاق ، وهم يدركون حجم المخاطر الكامنة وراء هكذا عمل.
الموت داخل النفق
سمير اللوح 50 عاما ويعمل سائق سيارة فقد ولديه الاثنين محمود واحمد بالإضافة إلى شقيقة فتحي بعد انهيار احد الأنفاق التي كانوا يعملون بها على حدود قطاع غزة مع الأراضي المصرية، يؤكد أن المأساة كبيرة جدا عندما يدفن أبنائك إحياء داخل نفق .
يقول اللوح من دير البلح أن صاحب النفق منحه مبلغ 20 ألف دولار بعد وفاة أبنائه (2) كتعويض عن مصاب لا يمكن للمال أن يمحوه أثاره القاسية من النفس عندما يسقط أبنائك في سبيل البحث عن لقمة العيش .
لغزة أسلوبها الاستثنائي في التعبير عن واقعها الإنساني والاقتصادي البائس، فهنا يصبح الموت داخل الأنفاق إنقاذا لموت آخر يترقبهم بفعل الجوع، وقد يتحول كسر الحصار من عمل بطولي إلى نشاط تجاري بهدف الكسب على حساب أرواح تائهة في فضاء تنعدم فيه فرص الحياة الكريمة.

