مركز "شمس": أمعاء فارغة وضمير عالمي منهار: تجويع أطفال قطاع غزة جريمة حرب

قال مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس" أنه في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، لم يعد الجوع مجرد خطر محتمل يتهدد الأطفال الفلسطينيين، بل أصبح واقعاً مرعباً يفتك بالأجساد الصغيرة يوماً بعد يوم، في واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية والحقوقية فداحة في التاريخ المعاصر. فالأطفال في غزة لا ينامون جوعى فقط، بل يستيقظون كل صباح على صرخات الأمعاء الخاوية، محاصرين بالموت من كل اتجاه؛ القصف فوق رؤوسهم، والمرض في أجسادهم، والجوع في بطونهم، والعالم يتفرج.
وقال مركز "شمس" أن معايير الكرامة والعدالة والحقوق انقلبت رأساً على عقب في غزة. حيث يحاصر أكثر من مليون طفل، يمنع عنهم الغذاء والماء والدواء، في انتهاكٍ صارخ وفاضح لكل القواعد القانونية والإنسانية التي تأسست عليها المنظومة الدولية. فالجوع ليس ظاهرة طبيعية في غزة، بل هو سياسة متعمدة تستخدم كأداة عقاب جماعي، تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ السكان المدنيين، في خرق جسيم لأحكام القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف، التي تحظر بشكلٍ قاطع استهداف المدنيين وحرمانهم من وسائل البقاء.
وشدد مركز "شمس" على أن حرمان الأطفال من الغذاء هو جريمة أخلاقية وإنسانية وقانونية مزدوجة. فوفقًا للمادة (24) من اتفاقية حقوق الطفل، والمادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يحق لكل طفل أن يتمتع بأعلى مستوى من الصحة، بما في ذلك الحصول على الغذاء الكافي والماء النظيف والرعاية الصحية. وتتحمل إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، المسؤولية القانونية الكاملة عن ضمان هذه الحقوق. ومع ذلك، فإن ما يجري في غزة اليوم هو تجويع منهجي ومدروس، لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة حرب ترقى إلى مستوى جريمة إبادة جماعية، كما يعرفها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وأوضح مركز "شمس" أن تجويع المدنيين في قطاع غزة يشكل جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، حيث تنص المادة (8)(2)(ب)(xxv) بوضوح على أن "تجويع المدنيين عمدًا كأسلوب من أساليب الحرب، بما في ذلك حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة"، يعد من الجرائم التي توجب الملاحقة. وبما أن فلسطين طرف في المحكمة منذ عام 2015، فإن المحكمة تمتلك الولاية القضائية الكاملة على الجرائم المرتكبة في غزة، بما فيها جرائم التجويع الممنهج. كما يؤكد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، على التزامات صريحة تقع على عاتق القوة القائمة بالاحتلال، حيث تنص المادة (55) على ضرورة قيامها بتوفير الأغذية والإمدادات الطبية للسكان المدنيين، فيما تُلزم المادة (59) بالسماح بحرية مرور الإغاثة الإنسانية دون عوائق، وهي التزامات تنتهكها إسرائيل بشكل متعمد في قطاع غزة، مما يجعلها قانونياً مسؤولة عن التهديد المباشر لحياة الأطفال. وبالإضافة إلى ذلك، يعد هذا الحرمان انتهاكاً صارخاً لـ اتفاقية حقوق الطفل حيث تكفل المادة (24) حق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي ممكن، وتقرّ المادة (27) بحقه في مستوى معيشي كافٍ لنموه البدني والعقلي والروحي، مما يجعل ما يجري بحق الأطفال في غزة ليس فقط انتهاكاً إنسانياً، بل خرقاً صريحاً للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ونبه مركز "شمس" إلى أن المشاهد والصور القادمة من قطاع غزة لرضع يموتون بسبب نقص الحليب، وأطفال تتقلص أجسادهم من الجوع، ليست فقط مشاهد محزنة؛ بل أدلة دامغة على فشل المجتمع الدولي في القيام بمسؤولياته القانونية والإنسانية. كما أن صمت الأمم المتحدة، وتقاعس الدول الكبرى، وتواطؤ بعض الأنظمة، كلها شواهد على تآكل المنظومة الحقوقية العالمية وفقدانها لمصداقيتها. فلا يجوز للمجتمع الدولي أن يستمر في التعاطي مع مأساة غزة من منطلق "المساعدات"، بل من منطلق "المساءلة". فالأمر لم يعد يتعلق بكارثة إنسانية فحسب، بل بجرائم مروعة ترتكب بدم بارد ضد الأطفال.
وأوضح مركز "شمس" بأن الجوع في غزة لا يحدث في فراغ، بل هو نتيجة مباشرة للحصار الشامل الذي تفرضه سلطات الاحتلال منذ ما يزيد على 17 عاماً، وللعدوان الوحشي الذي دمر المزارع والمخابز ومراكز التغذية والمستشفيات. وهو ناتج عن منع دخول المواد الغذائية، واستهداف المساعدات الإنسانية، في خرق مباشر للمادة (55) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تلزم القوة القائمة بالاحتلال بتوفير الغذاء للسكان المحميين. وعلى الرغم من المناشدات المتكررة من المنظمات الإنسانية، فإن إسرائيل تواصل منع دخول الإمدادات الغذائية الكافية، وتعيق عمداً وصول المساعدات، ما يكشف عن سياسة ممنهجة لتجويع المدنيين.
وقال مركز "شمس" إننا نقف اليوم أمام لحظة أخلاقية مفصلية، لا بد أن تترجم فيها المواقف الحقوقية إلى فعل سياسي وقانوني ملزم. لا يكفي أن تصدر بيانات الإدانة، ولا أن ترسل شحنات غذائية مشروطة. المطلوب هو تحرك عاجل وجذري يقود إلى وقف فوري وكامل للحصار والعدوان، وفتح ممرات إنسانية دائمة وآمنة، وضمان تدفق الغذاء والماء والرعاية الصحية للأطفال دون عوائق. كما ينبغي تحريك كافة الأدوات القانونية المتاحة لمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم أمام المحاكم الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، واللجوء إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية. فالأطفال في غزة لا يحتاجون الشفقة، بل العدالة. لا يحتاجون دموعاً تذرف من خلف الشاشات، بل مواقف تتخذ في أروقة الأمم، وإجراءات تنفذ ضد الجناة. فكل يوم يمضي دون محاسبة هو رخصة للقتل، فالجوع الذي يفتك بأطفال غزة ليس قدراً، بل نتيجة مباشرة لصمت العالم وتواطئه. وقد آن الأوان أن يتحمل الجميع مسؤوليته التاريخية، لأن الإنسانية لا تقاس بما نملكه من قوانين، بل بما نفعله عندما تنتهك هذه القوانين أمام أعيننا.
وذكّر مركز "شمس" بالتقارير الحقوقية التي صدرت عن منظمات دولية مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP) الذي حذر في تقاريره من أن خطر المجاعة في قطاع غزة لم يعد نظرياً، بل واقعاً ملموساً، مشيراً إلى أن 100% من سكان القطاع يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وهو أعلى مستوى يسجل وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. هذا التحذير المروع جاء متسقاً مع ما وثقه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في تقاريره المتتابعة والتي بينت الانهيار الكلي للنظام الغذائي، ووجود عوائق إسرائيلية ممنهجة أمام إدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية، خاصة تلك الموجهة للأطفال، مؤكدة في الوقت ذاته وقوع وفيات فعلية بين الأطفال بسبب الجوع وسوء التغذية، وأن شمال غزة يعيش المجاعة رسمياً. أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، فقد أشارت في بياناتها إلى أن استهداف البنية التحتية الحيوية، بما يشمل الزراعة والمياه والقطاع الصحي، إلى جانب فرض القيود على دخول المساعدات، يشكل حرماناً غير قانوني من الحق في الغذاء، في خرق واضح لأحكام القانون الدولي الإنساني. وضمن السياق ذاته، أكدت لجنة التحقيق الدولية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة (COI) في تقاريرها أمام مجلس حقوق الإنسان، أن إسرائيل تستخدم الحصار والتجويع كأدوات حرب ممنهجة، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب مكتملة الأركان بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وطالب مركز "شمس" المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والدول الأطراف في اتفاقيات جنيف، بالتحرك العاجل والفعلي لوقف سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال في قطاع غزة، مؤكدًا أن الاكتفاء بالتصريحات والبيانات لم يعد مقبولاً في ظل تفاقم الكارثة ووصولها إلى مستويات الإبادة الجماعية. ودعا المركز إلى تفعيل آليات المساءلة الدولية فوراً، بما يشمل توسيع نطاق التحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية لتشمل جرائم التجويع، وتقديم مرتكبيها إلى العدالة، والعمل على فتح ممرات إنسانية دائمة وآمنة تسمح بتدفق الغذاء والماء والدواء دون عوائق، مشدداً على أن صمت العالم يرقى إلى درجة التواطؤ، وأن الأطفال في غزة يحتاجون إلى حماية عاجلة تضمن حقهم في الحياة الكريمة، لا إلى عبارات تضامن جوفاء.